What is Nostr?
npub1qvz…0q7m
2023-01-27 00:27:37

npub1qv…r0q7m on Nostr: كنت في الثامنية عشرة من عمري عندما فتح الحب ...

كنت في الثامنية عشرة من عمري عندما فتح الحب عينيَّ بأشعته السحرية، ولمس نفسي لأول مرة بأصابعه النارية. وكانت سلمى كرامة المرأة الأولى التي أيقظت روحي لمحاسنها، ومشت أمامي إلى جنة العواطف العلوية حيث تمر الأيام كالأحلام وتنقضي الليالي كالأعراس. سلمى كرامة هي التي علمتني عبادة الجمال بجمالها، وأرتني خفايا الحب بانعطافها، وهي التي أنشدت على مسمعي أول بيت من قصيدة الحياة المعنوية. أي فتى لا يذكر الصبية الأولى التي أبدلت غفلة شبيبته بيقظة هائلة بلطفها، جارحة بعذوبتها، فتاكة بحلاوتها؟ من منا لا يذوب حنيناً إلى تلك الساعة الغريبة التي إذا انتبه فيها فجأة رأى كليته قد انقلبت وتحولت، وأعماقه قد اتسعت وانبسطت وتبطنت بانفعالات لذيذة بطل ما فيها من مرارة الكتمان، مستحبة بكل ما يكتنفها من الدموع والشوق والسهاد. لكل فتى سلمى تظهر على حين غفلة في ربيع حياته. وتجعل لانفراده معنى شعرياً وتبدل وحشة أيامه بالأنس، وسكينة لياليه بالأنغام. كنت حائراً بين تأثيرات الطبيعة وموحيات الكتب والأسفار عندما سمعت الحب يهمس بشفتي سلمى في آذان نفسي، وكانت حياتي خالية مقفرة باردة شبيهة بسبات آدم في الفردوس عندما رأيت سلمى منتصبة أمامي كعمود النور، فسلمى كرامة هي حواء هذا القلب المملوء بالأسرار والعجائب، هي التي أفهمته كنه هذا الوجود وأوقفته كالمرآة أمام هذه الأشباح. حواء الأولى أخرجت آدم من الفردوس بإرادتها وانقياده، أما سلمى فأدخلتني إلى جنة الحب والطهر بحلاوتها واستعدادي، ولكن ما أصاب الإنسان الأول قد أصابني، والسيف الناري الذي طرده من الفردوس هو كالسيف الذي أخافني بلمعان حده، وأبعدني كرهاً عن جنة المحبة قبل أن أخالف وصية، وقبل أن أذوق طعم ثمار الخير والشر. واليوم، وقد مرت الأعوام المظلمة طامسة بأقدامها رسوم تلك الأيام، لم يبقى لي من ذلك الحلم الجميل سوى ذكريات موجعة ترفرف كالأجنحة غير المنظرة حول رأسي، مثيرة تنهدات الأسى في أعماق صدري، مستقطرة دموع اليأس والأسف من أجفاني.. وسلمى ــ سلمى الجميلة العذبة قد ذهبت إلى ما وراء الشفق الأزرق ولم يبق من آثارها في هذا العالم سوى غصات أليمة في قلبي، وقبر رخام منتصب في ظلال أشجار السرو. فذلك القبر وهذا القلب هما كل ما بقي ليحدث الوجود عن سلمى كرامة. غير أن السكينة التي تخفر القبور لا تفشي 1لك السر المصون الذي أخفته الآلهة في ظلمات التابوت، والأغصان التي امتصت عناصر الجسد لا تبيح بحفيفها مكنونات الحفرة، أما غصات وأوجاع هذا القلب فهي التي تتكلم وهي التي تنسكب الآن مع قطرات الحبر السوداء معلنة للنور أشباح تلك المأساة التي مثلها الحب والجمال والموت. فيا أصدقاء شبيبتي المنتشرين في بيروت، إذا مررتم بتلك المقبرة القريبة من غابة الصنوبر ادخلوها صامتين، وسيروا ببطء كيلا تزعج أقدامكم رفات الراقدين تحت أطباق الثرى، وقفوا متهيبين بجانب قبر سلمى وحيوا التراب الذي ضم جثمانها. ثم اذكروني بتنهدة قائلين في نفوسكم: ههنا دفنت آمال ذلك الفتى الذي نفته صروف الدهر إلى ما وراء البحار، وههنا توارت أمانيه وانزوت أفراحه وغادرت دموعه واضمحلت ابتساماته، وبين هذه المدافن الخرساء تنمو كآبته مع أشجار السرو والصفصاف. وفوق هذا القبر ترفرف روحه كل ليلة مستأنسة بالذكرى، مرددة مع أشباح الوحشة ندابات الحزن والأسى، نائحة مع الغصون على صبية كانت بالأمس نغمة شجية بين شفتي الحياة فأصبحت اليوم سراً صامتاً في صدر الأرض.
أستحلفكم يا رفاق الصبا بالنساء اللواتي أحبتهن قلوبكم أن تضعوا أكاليل الأزهار على قبر المرأة التي أحبها قلبي ـ فرب زهرة تلقونها على ضريح منسي تكون كقطرة الندى التي تسكبها أجفان الصباح بين أوراق الورود الذابلة.
- الكآبة الخرساء
أنتم أيها الناس تذكرون فجر الشبيبة فرحين باسترجاع رسومه، متأسفين على انقضائه، أما أنا فأذكره مثلما يذكر الحر المعتوق جدران سجنه وثقل قيوده. أنتم تدعون تلك السنين التي تجيء بين الطفولة والشباب عهداً ذهبياً يهزأ بمتاعب الدهر وهواجسه ويطير مرفرفاً فوق رؤوس المشاعل والهموم مثلما تجتاز النحلة فوق المستنقعات الخبيثة، سائرة نحو البساتين المزهرة، أما أنا فلا أستطيع أن أدعو سني الصبا سوى عهد آلام خفية خرساء كانت تقطن قلبي وتثور كالعواصف في جوانبه، وتتكاثر نامية بنموه ولم تجد منفذاً تنصرف منه إلى عالم المعرفة حتى دخل إليه الحب وفتح أبوابه وأنار زواياه، فالحب قد عتق لساني فتكلمت ومزق أجفاني فبكيت وفتح حنجرتي فتنهدت وشكوت. أنتم أيها الناس تذكرون الحقول والبساتين والساحات وجوانب الشوارع التي رأت ألعابكم وسمعت همس طهركم، وأنا أيضاً أذكر تلك البقية الجميلة من شمال لبنان، فما أغمضت عينيّ عن هذا المحيط إلا ورأيت تلك الأودية المملوءة سحراً وهيبة، وتلك الجبال المتعالية بالمجد والعظمة نحو العلاء، ولا صممت أذني عن ضجة هذا الاجتماع إلا وسمعت خرير تلك السواقي وحفيف تلك الغصون, ولكن هذه المحاسن التي أذكرها الآن وأشوق إليها شوق الرضيع إلى ذراعي أمه هي التي كانت تعذب روحي المسجونة في ظلمة الحداثة مثلما يتعذب البازي بين قضبان قفصه عندما يرى أسراب البزاة تسبح حرة في الخلاء الوسيع ــ وهي التي كانت تملأ صدري بأوجاع التأمل ومرارة التفكير، وتنسج بأصابع الحيرة والالتباس نقاباً من اليأس والقنوط حول قلبي ــ فلم أذهب إلى البرية إلا وعدت منها كئيباً جاهلاً أسباب الكآبة. ولا نظرت مساء إلى الغيوم المتلونة بأشعة الشمس إلا وشعرت بانقباض متلف ينمو لجهلي معاني الانقباض، ولا سمعت تغريدة الشحرور أو أغنية الغدير إلا وقفت حزيناً لجهلي موجبات الحزن. يقولون إن الغباوة مهد الخلود والخلود مرقد الراحة ــ وقد يكون ذلك صحيحاً عند الذين يولدون أمواتاً ويعيشون كالأجساد الهامدة الباردة فوق التراب، ولكن إذا كانت الغباوة العمياء قاطنة في جوار العواطف المستيقظة تكون الغباوة أقصى من الهاوية وأمر من الموت. والصبي الحساس الذي يشعر كثيراً ويعرف قليلاً هو أتعس المخلوقات أمام وجه الشمس لأن نفسه تظل واقفة بين قوتين هائلتين متباينتين: قوة خفية تحلق به السحاب وتريه محاسن الكائنات من وراء ضباب الأحلام، وقوة ظاهرة تقيده بالأرض وتغمر بصيرته بالغبار وتتركه ضائعاً خائفاً في ظلمة حالكة. للكآبة آياد حريرية الملامس، قوية الأعصاب تقبض على القلوب وتؤلمها بالوحدة. فالوحدة حليفة الكآبة كما أنها أليفة كل حركة روحية. ونفس الصبي المنتصبة أمام عوامل الوحدة وتأثيرات الكآبة شبيهة بالزنبقة البيضاء عند خروجها من الكمام ترتعش أمام النسيم، وتفتح قلبها لأشعة الفجر وتضم أوراقها بمرور خيالات المساء، فأن لم يكن للصبي من الملاهي ما يشغل فكرته، ومن الرفاق من يشاركه في الأميال، كانت الحياة أمامه كحبس ضيق لا يرى في جوانبه غير أنوال العناكب ولا يسمع من زواياه سوى دبيب الحشرات. أما تلك الكآبة التي اتبعت أيام حداثتي فلم تكن ناتجة عن حاجتي إلى الملاهي لأنها كانت متوفرة لدي، ولا عن افتقاري إلى الرفاق لأنني كنت أجدهم أينما ذهبت، بل هي من أعراض علة طبيعية في النفس كانت تحبب إليّ الوحدة والانفراد وتميت في روحي الأميال إلى الملاهي والألعاب، وتخلع عن كتفيّ أجنحة الصبا وتجعلني أمام الوجود كحوض مياه بين الجبال يعكس بهدوئه المحزن رسوم الأشباح وألوان الغيوم وخطوط الأغصان ولكنه لا يجد ممراً يسير فيه جدولاً مترنماً إلى البحر. هكذا كانت حياتي قبل أن أبلغ الثامنة عشرة، فتلك السنة هي من ماضيّ بمقام القمة من الجبل، لأنها أوقفتني متأملاً تجاه هذا العالم، وأرتني سبل البشر، ومروج أميالهم، وعقبات متاعبهم وكهوف شرائعهم وتقاليدهم. في تلك السنة ولدت ثانية والمرء إن لم تحبل به كنت في الثامنية عشرة من عمري عندما فتح الحب عينيَّ بأشعته السحرية، ولمس نفسي لأول مرة بأصابعه النارية. وكانت سلمى كرامة المرأة الأولى التي أيقظت روحي لمحاسنها، ومشت أمامي إلى جنة العواطف العلوية حيث تمر الأيام كالأحلام وتنقضي الليالي كالأعراس. سلمى كرامة هي التي علمتني عبادة الجمال بجمالها، وأرتني خفايا الحب بانعطافها، وهي التي أنشدت على مسمعي أول بيت من قصيدة الحياة المعنوية. أي فتى لا يذكر الصبية الأولى التي أبدلت غفلة شبيبته بيقظة هائلة بلطفها، جارحة بعذوبتها، فتاكة بحلاوتها؟ من منا لا يذوب حنيناً إلى تلك الساعة الغريبة التي إذا انتبه فيها فجأة رأى كليته قد انقلبت وتحولت، وأعماقه قد اتسعت وانبسطت وتبطنت بانفعالات لذيذة بطل ما فيها من مرارة الكتمان، مستحبة بكل ما يكتنفها من الدموع والشوق والسهاد. لكل فتى سلمى تظهر على حين غفلة في ربيع حياته. وتجعل لانفراده معنى شعرياً وتبدل وحشة أيامه بالأنس، وسكينة لياليه بالأنغام. كنت حائراً بين تأثيرات الطبيعة وموحيات الكتب والأسفار عندما سمعت الحب يهمس بشفتي سلمى في آذان نفسي، وكانت حياتي خالية مقفرة باردة شبيهة بسبات آدم في الفردوس عندما رأيت سلمى منتصبة أمامي كعمود النور، فسلمى كرامة هي حواء هذا القلب المملوء بالأسرار والعجائب، هي التي أفهمته كنه هذا الوجود وأوقفته كالمرآة أمام هذه الأشباح. حواء الأولى أخرجت آدم من الفردوس بإرادتها وانقياده، أما سلمى فأدخلتني إلى جنة الحب والطهر بحلاوتها واستعدادي، ولكن ما أصاب الإنسان الأول قد أصابني، والسيف الناري الذي طرده من الفردوس هو كالسيف الذي أخافني بلمعان حده، وأبعدني كرهاً عن جنة المحبة قبل أن أخالف وصية، وقبل أن أذوق طعم ثمار الخير والشر. واليوم، وقد مرت الأعوام المظلمة طامسة بأقدامها رسوم تلك الأيام، لم يبقى لي من ذلك الحلم الجميل سوى ذكريات موجعة ترفرف كالأجنحة غير المنظرة حول رأسي، مثيرة تنهدات الأسى في أعماق صدري، مستقطرة دموع اليأس والأسف من أجفاني.. وسلمى ــ سلمى الجميلة العذبة قد ذهبت إلى ما وراء الشفق الأزرق ولم يبق من آثارها في هذا العالم سوى غصات أليمة في قلبي، وقبر رخام منتصب في ظلال أشجار السرو. فذلك القبر وهذا القلب هما كل ما بقي ليحدث الوجود عن سلمى كرامة. غير أن السكينة التي تخفر القبور لا تفشي 1لك السر المصون الذي أخفته الآلهة في ظلمات التابوت، والأغصان التي امتصت عناصر الجسد لا تبيح بحفيفها مكنونات الحفرة، أما غصات وأوجاع هذا القلب فهي التي تتكلم وهي التي تنسكب الآن مع قطرات الحبر السوداء معلنة للنور أشباح تلك المأساة التي مثلها الحب والجمال والموت. فيا أصدقاء شبيبتي المنتشرين في بيروت، إذا مررتم بتلك المقبرة القريبة من غابة الصنوبر ادخلوها صامتين، وسيروا ببطء كيلا تزعج أقدامكم رفات الراقدين تحت أطباق الثرى، وقفوا متهيبين بجانب قبر سلمى وحيوا التراب الذي ضم جثمانها. ثم اذكروني بتنهدة قائلين في نفوسكم: ههنا دفنت آمال ذلك الفتى الذي نفته صروف الدهر إلى ما وراء البحار، وههنا توارت أمانيه وانزوت أفراحه وغادرت دموعه واضمحلت ابتساماته، وبين هذه المدافن الخرساء تنمو كآبته مع أشجار السرو والصفصاف. وفوق هذا القبر ترفرف روحه كل ليلة مستأنسة بالذكرى، مرددة مع أشباح الوحشة ندابات الحزن والأسى، نائحة مع الغصون على صبية كانت بالأمس نغمة شجية بين شفتي الحياة فأصبحت اليوم سراً صامتاً في صدر الأرض.
أستحلفكم يا رفاق الصبا بالنساء اللواتي أحبتهن قلوبكم أن تضعوا أكاليل الأزهار على قبر المرأة التي أحبها قلبي ـ فرب زهرة تلقونها على ضريح منسي تكون كقطرة الندى التي تسكبها أجفان الصباح بين أوراق الورود الذابلة.
- الكآبة الخرساء
أنتم أيها الناس تذكرون فجر الشبيبة فرحين باسترجاع رسومه، متأسفين على انقضائه، أما أنا فأذكره مثلما يذكر الحر المعتوق جدران سجنه وثقل قيوده. أنتم تدعون تلك السنين التي تجيء بين الطفولة والشباب عهداً ذهبياً يهزأ بمتاعب الدهر وهواجسه ويطير مرفرفاً فوق رؤوس المشاعل والهموم مثلما تجتاز النحلة فوق المستنقعات الخبيثة، سائرة نحو البساتين المزهرة، أما أنا فلا أستطيع أن أدعو سني الصبا سوى عهد آلام خفية خرساء كانت تقطن قلبي وتثور كالعواصف في جوانبه، وتتكاثر نامية بنموه ولم تجد منفذاً تنصرف منه إلى عالم المعرفة حتى دخل إليه الحب وفتح أبوابه وأنار زواياه، فالحب قد عتق لساني فتكلمت ومزق أجفاني فبكيت وفتح حنجرتي فتنهدت وشكوت. أنتم أيها الناس تذكرون الحقول والبساتين والساحات وجوانب الشوارع التي رأت ألعابكم وسمعت همس طهركم، وأنا أيضاً أذكر تلك البقية الجميلة من شمال لبنان، فما أغمضت عينيّ عن هذا المحيط إلا ورأيت تلك الأودية المملوءة سحراً وهيبة، وتلك الجبال المتعالية بالمجد والعظمة نحو العلاء، ولا صممت أذني عن ضجة هذا الاجتماع إلا وسمعت خرير تلك السواقي وحفيف تلك الغصون, ولكن هذه المحاسن التي أذكرها الآن وأشوق إليها شوق الرضيع إلى ذراعي أمه هي التي كانت تعذب روحي المسجونة في ظلمة الحداثة مثلما يتعذب البازي بين قضبان قفصه عندما يرى أسراب البزاة تسبح حرة في الخلاء الوسيع ــ وهي التي كانت تملأ صدري بأوجاع التأمل ومرارة التفكير، وتنسج بأصابع الحيرة والالتباس نقاباً من اليأس والقنوط حول قلبي ــ فلم أذهب إلى البرية إلا وعدت منها كئيباً جاهلاً أسباب الكآبة. ولا نظرت مساء إلى الغيوم المتلونة بأشعة الشمس إلا وشعرت بانقباض متلف ينمو لجهلي معاني الانقباض، ولا سمعت تغريدة الشحرور أو أغنية الغدير إلا وقفت حزيناً لجهلي موجبات الحزن. يقولون إن الغباوة مهد الخلود والخلود مرقد الراحة ــ وقد يكون ذلك صحيحاً عند الذين يولدون أمواتاً ويعيشون كالأجساد الهامدة الباردة فوق التراب، ولكن إذا كانت الغباوة العمياء قاطنة في جوار العواطف المستيقظة تكون الغباوة أقصى من الهاوية وأمر من الموت. والصبي الحساس الذي يشعر كثيراً ويعرف قليلاً هو أتعس المخلوقات أمام وجه الشمس لأن نفسه تظل واقفة بين قوتين هائلتين متباينتين: قوة خفية تحلق به السحاب وتريه محاسن الكائنات من وراء ضباب الأحلام، وقوة ظاهرة تقيده بالأرض وتغمر بصيرته بالغبار وتتركه ضائعاً خائفاً في ظلمة حالكة. للكآبة آياد حريرية الملامس، قوية الأعصاب تقبض على القلوب وتؤلمها بالوحدة. فالوحدة حليفة الكآبة كما أنها أليفة كل حركة روحية. ونفس الصبي المنتصبة أمام عوامل الوحدة وتأثيرات الكآبة شبيهة بالزنبقة البيضاء عند خروجها من الكمام ترتعش أمام النسيم، وتفتح قلبها لأشعة الفجر وتضم أوراقها بمرور خيالات المساء، فأن لم يكن للصبي من الملاهي ما يشغل فكرته، ومن الرفاق من يشاركه في الأميال، كانت الحياة أمامه كحبس ضيق لا يرى في جوانبه غير أنوال العناكب ولا يسمع من زواياه سوى دبيب الحشرات. أما تلك الكآبة التي اتبعت أيام حداثتي فلم تكن ناتجة عن حاجتي إلى الملاهي لأنها كانت متوفرة لدي، ولا عن افتقاري إلى الرفاق لأنني كنت أجدهم أينما ذهبت، بل هي من أعراض علة طبيعية في النفس كانت تحبب إليّ الوحدة والانفراد وتميت في روحي الأميال إلى الملاهي والألعاب، وتخلع عن كتفيّ أجنحة الصبا وتجعلني أمام الوجود كحوض مياه بين الجبال يعكس بهدوئه المحزن رسوم الأشباح وألوان الغيوم وخطوط الأغصان ولكنه لا يجد ممراً يسير فيه جدولاً مترنماً إلى البحر. هكذا كانت حياتي قبل أن أبلغ الثامنة عشرة، فتلك السنة هي من ماضيّ بمقام القمة من الجبل، لأنها أوقفتني متأملاً تجاه هذا العالم، وأرتني سبل البشر، ومروج أميالهم، وعقبات متاعبهم وكهوف شرائعهم وتقاليدهم. في تلك السنة ولدت ثانية والمرء إن لم تحبل به الكآبة ويتمحض به اليأس، وتضعه المحبة في مهد الأحلام، تظل حياته كصفحة خالية بيضاء في كتاب الكيان. ويتمحض به اليأس، وتضعه المحبة في مهد الأحلام، تظل حياته كصفحة خالية بيضاء في كتاب الكيان.
Author Public Key
npub1qvzhsassassmen5f3nmrwaxnfk0u8zpd6rxhsw83vfskgpm6vc2slr0q7m